تطرح أسئلة معاصرة حول الحب والحرية والتاريخ.. رواية الشيخ الأحمر لعباس بيضون تكشف تناقضات النفس البشرية - مصر بوست
عزيزي الزائر أهلا وسهلا بك في موقع مصر بوست نقدم لكم اليوم تطرح أسئلة معاصرة حول الحب والحرية والتاريخ.. رواية الشيخ الأحمر لعباس بيضون تكشف تناقضات النفس البشرية - مصر بوست
نشر في: الجمعة 15 نوفمبر 2024 - 6:34 م
آخر تحديث: الجمعة 15 نوفمبر 2024 - 6:34 م
يقدم الكاتب اللبنانى عباس بيضون نموذجا فى فن الرواية المتقنة، عبر صفحات رواية «الشيخ الأحمر» الصادرة عن دار الشروق،ض وذلك من حيث البناء والسرد واللغة وتعمق الشخصيات وتحليل دوافعهم، فقد جمعت الرواية بين عنصرى التشويق والإمتاع، حيث يمتد فضاء الرواية الجغرافى من «النجف» فى العراق إلى «جباع» فى لبنان، والزمان ينفتح على الحقبة العثمانية.
تستلهم الرواية أحداث الماضى لطرح أسئلة معاصرة حول الدين، الحرية، الحب، الخيانة، مما يجعل الحاضر يبدو كامتداد طبيعى للتاريخ، وكأن الماضى لم يغب عنا. والسؤال الأعمق الذى تطرحه الرواية: أين نحن من كل هذا، هل يمثل الحاضر قفزة للأمام بعيدًا عن الماضى، أم أنه عودة مستمرة إلى جذور لا تزال تتجدد.
يركز الكاتب نسج الأحداث حول مجموعة شخصيات، منها شخصية لبنانية، «عبد الحسين»، الذى كان يتطلع لأن يصبح رجل دين، فسافر إلى «النجف» وتزوج امرأة عراقية تدعى «خديجة»، وكان يأمل أن يستقر هناك حيث الحياة هادئة، فهناك ينتشر رجال الدين فى كل مكان، وهو بينهم لا يلفت الانتباه، لا ينتظرون منه كلامًا عميقًا أو مشورة دينية، بينما إذا عاد إلى قريته «جباع»، كما يطلب منه أهلها، سيجد نفسه مكشوفًا. هو يرغب فى قضاء عمره فى الصمت، فبمجرد أن يحاول الحديث، تتعثر كلماته ويشعر بالارتباك، متسائلًا عن جدوى كل ذلك. لكن العودة، أصبحت مصيره، فعاد.
ببراعة معتادة يصوغ بيضون شخصيات بيت الشيخ عبد الحسين، وفى مقدمتهم زوجته خديجة، المرأة الهادئة التى تترك له حرية التصرف كما يحلو له، حتى لو شملت علاقاته بعض نساء القرية من أرامل ومطلقات، إذ تعتبره مساعدةً لهن تباركها التعاليم الدينية. أما أختها «عاصمة»، فهى مطلقة ترفض مثل هذه التصرفات وتنتقدها، لكنها ما تلبث أن تستسلم لحقيقة أن شيئًا لن يتغير، فتبقى ترعى شئون البيت وتهتم بالأطفال.
يتناول السرد كذلك شخصية «آمنة»، ابنة الشيخ ذات الخمسة عشر عامًا، ومن خلالها تتضح تلك التربية الصارمة التى تفرض قيودًا على تصرفاتها، حيث تعاقب على أبسط الأمور، فتجد نفسها تحت مراقبة صارمة من خالتها «عاصمة»، التى تنهرها حتى إن لامس الصابون جسدها، وكأنها تخشى أن يلاحظ أحد عطرها.
الرواية تعد نموذجًا أدبيًا عالى المستوى، يجعلنا نفهم أنفسنا بعمق أكبر، ويكشف لنا عن تناقضاتنا الداخلية وسلوكياتنا الغريبة، ويوفر منظورًا جديدًا لفهم الحياة والأشخاص المحيطين بنا، عمل أدبى ينجح بسلاسة فى نقل القارئ عبر الزمان والمكان بتفاصيل مذهلة.
ينجح بيضون فى إبراز تناقضات الكبار فى الرواية؛ فـ«عاصمة» التى تراقب «آمنة» بعينٍ لا تغفل، تجد نفسها منجذبة إلى «عبد الفضيلس خطيب الفتاة الصغيرة، أما الشيخ عبد الحسين، فيمارس سلطته على النساء باسم الدين وحمايتهن من الفساد. ومع انغماسه فى الملذات، يبقى متشددًا فى أمور الدين، رافضًا أى حديث عن التجديد، فالدين لديه لا يمس، كما أن تعمقه فى الفلسفة لم يضف له سوى لقب «الشيخ الأحمر»، الذى قُصد به السخرية ولكنه تقبله بشغف.
الكاتب يضع شخصيتيه الرئيسيتين، آمنة وخالتها عاصمة، فى تجارب قاسية ومتقاربة؛ حيث تواجه آمنة صدمة فقدان حبيبها عبد الفضيل إثر مرض تشمع الكبد، ثم يظهر بعد رحيله فى أحلام المحيطين بها، موصيًا أن تتزوج من شقيقه أيمن. هنا يعمق بيضون من وصفه لمشاعر آمنة وحيرتها بين القبول والرفض، وأسباب تجاذبها تجاه أيمن وابتعادها عنه؛ فهى تعرف أن أيمن مختلف عن عبد الفضيل، وأنها ليست مجرد بديلًا لأى شخص آخر. بعد معاناة داخلية مريرة، تميل فى نهاية المطاف إلى أيمن، الذى يدرك بدوره أنه فرد مستقل، ولا يمكن لذكرى من الماضى أن تتحكم فى حياته.
أما بالنسبة لعاصمة، فكانت أزمتها الكبرى فى فقدان شقيقتها بسبب مضاعفات السكرى، ليصبح البيت خاليًا أمامها وحدها. تجد نفسها أمام تحدٍ جديد، إذ كانت هى المدبّرة الحقيقية لشئون المنزل من خلف الكواليس، لكنها لم تكن تتحكم فى زيارات النساء إلى الشيخ عبد الحسين. بعد وفاة شقيقتها، تقرر أن تأخذ دورها بشكل كامل، لكنها تتساءل عن موقف الناس منها، وهى الآن الوحيدة فى بيت الشيخ. تفرض قيودًا على النسوة وتحدد أوقاتًا صارمة لحضورهن، وتبدأ بمواجهة مشاعرها تجاه عبد الحسين، متسائلة إن كانت يمكنها أن تصبح بديلاً لشقيقتها الراحلة. يصور بيضون صراعها الداخلى والعاصفة العاطفية التى مرت بها حتى تهتدى إلى قرارها النهائي: أن تظل مخلصة لذكرى شقيقتها، مستمرة فى تفانيها من أجل الآخرين، حتى وإن شمل ذلك خديجة التى رحلت عن الدنيا.