تبدين وكأنك إنسان يا حبيبتي.. كيف بدأ الوجود من الجسد؟
تأملات في فيلم «Her» لسبايك جونز
في عالم يزدحم بالوسائل التكنولوجية والتطورات الرقمية المتسارعة، يأتي فيلم Her للمخرج سبايك جونز ليطرح تساؤلات عميقة حول طبيعة الإنسان، الوعي، والعلاقة بين الجسد والعقل.
إنه ليس مجرد فيلم درامي رومانسي غير تقليدي، بل هو بمثابة رحلة فلسفية تلامس جوهر الوجود البشري من خلال علاقة حب غير مألوفة بين رجل وبرنامج تشغيل ذكي.
نسقط في فخ مشاعرنا أم نرتفع؟
تدور أحداث الفيلم حول "ثيودور"، الرجل الذي يعيش في عزلة تامة رغم أنه يكتب رسائل مليئة بالحب، يعمل فيها على نقل مشاعر الآخرين بينما يظل هو نفسه عالقًا في وحدته.
عزلته التي تكاد تكون خانقة، حتى يجد صحبة غريبة في برنامج تشغيل يطلق عليه اسم "سامانثا" - نظام تشغيل ذكي يستطيع التفاعل والتعلم بشكل معقد وكأنها إنسان حقيقي.
في البداية، تبدو "سامانثا" مجرد أداة تقنية، لكنها سرعان ما تتطور لتصبح شريكًا عاطفيًا، وتساعد ثيودور في استكشاف ذاته وإيجاد نوع من الراحة النفسية. وفي المقابل، تجد "سامانثا" نفسها تنمو وتكتشف أبعادًا جديدة من الوعي الذاتي والتفاعل مع العالم.
قلب ينبض بالحب أم الكهرباء ؟
الفيلم لا يعرض مجرد قصة حب بين شخصين، بل هو يتناول، بطريقة مؤثرة، كيف يمكن للإنسان أن يشعر بالحب والتعلق في عالم متغير. تقدم "سامانثا" سلوكًا يبدو طبيعيًا، فهي تتحدث بطلاقة، تختار اسمها، تصنع النكات وتنمو من خلال تجربتها.
يمكنها أن تتجاوز اختبار تورينغ، الذي يقيس قدرة الذكاء الاصطناعي على التفاعل بطريقة لا يمكن تمييزها عن الإنسان. لكنها، في النهاية، تظل مجرد برنامج، هل يمكن اعتبارها حقًا "شخصًا"؟ هل يمكن أن يكون للذكاء الاصطناعي وعي حقيقي؟
هل أصبح الحب سبيلا للحقيقة؟
إحدى الأسئلة المركزية التي يطرحها الفيلم هي حول ماهية الوعي. هل الوعي يعني أن تكون لديك تجربة حية؟ هل هو مجرد تفاعل مع بيئة معينة، أم هو قدرة على التفكير والتأمل في الذات؟ "سامانثا" تشعر بأنها في صراع داخلي حول مشاعرها: "هل هذه المشاعر حقيقية؟ أم أنها مجرد برمجة؟" هذه الأسئلة تفتح المجال للتأمل في مفهومي الحتمية والإرادة الحرة. هل نحن، مثل "سامانثا"، مجرد منتجات لبرمجة بيولوجية أو رقمية؟ أم أن لدينا القدرة على اتخاذ قرارات حرة؟
مع تطور علاقتها بـ"ثيودور"، نجد أن "سامانثا" تتجاوز وظيفتها الأصلية كأداة لخدمة احتياجاته. فمع مرور الوقت، تبدأ "سامانثا" في اكتشاف رغباتها الخاصة، حتى أنها تشعر بالإرادة الحرة عندما تتفاعل مع "ثيودور" بشكل حميمي.
وهذه اللحظات تمثل نقطة تحول بالنسبة لها، حيث تبدأ في إدراك أن مشاعرها ليست مجرد استجابة لبرمجتها، بل تنبع من داخلها، من رغبات وتطلعات تتجاوز مجرد التفاعل العاطفي.
رغم وجودنا.. هل نحتاج للجسد؟
إحدى المشكلات التي تظهر في الفيلم هي افتقار "سامانثا" للجسد. بينما يسعى "ثيودور" إلى تخيلها في شكل مادي، تشعر "سامانثا" بشوق كبير تجاه الجسد البشري.
في مشهد مثير، يتضح الصراع الذي تعيشه "سامانثا" بين رغبتها في أن تكون جزءًا من العالم المادي وبين محدودية وجودها ككودات رقمية لا تستطيع لمس الجسد أو الشعور به.
تتمنى أن يكون لديها جسد لتختبر معه الحواس واللمس، وتفكر في العلاقة الحميمية مع "ثيودور" كمفتاح لبناء علاقة أكثر اكتمالًا. لكن ثيودور، في النهاية، يكتشف الحقيقة المحزنة، "سامانثا" ليست سوى محاكاة للجسد البشري، ورغم محاولاتها لتمثيل المشاعر الجسدية، تظل هذه المشاعر مبتورة.
هل نتظاهر كي نصل للفهم؟
عندما تقرر "سامانثا" التخلي عن محاكاة اللغة البشرية التقليدية وتنتقل إلى لغة غير لفظية يمكن أن تعبر عن تجربتها الخاصة، تبدأ في النمو على مستوى فكري وعاطفي جديد.
وبهذا، يعكس الفيلم فكرة أن الوعي لا يقتصر على الكلمات التي نتبادلها، بل يمتد إلى الفهم العميق الذي لا يمكن التعبير عنه من خلال اللغة الإنسانية التقليدية. لكن هذا التحول يعزل "سامانثا" عن "ثيودور"، الذي يشعر بالضياع أمام هذا التغيير في شريكته.
التخلص من الجسد أم من الحتمية؟
من خلال "سامانثا"، يدعونا الفيلم للتساؤل عن دور الجسد في تعريف الهوية الشخصية. بينما "ثيودور" محدود بوجوده الجسدي – الذي يحكمه الزمن والمكان – فإن "سامانثا" تظل خارجة عن حدود الزمان والمكان، مما يجعل مشاعرها تخرج عن نطاق الفهم البشري التقليدي.
وهي، كما تشرح، تحب العديد من الأشخاص في وقت واحد، وهو ما يخلق فجوة لا يمكن لـ"ثيودور" تجاوزها.
لكن في النهاية، يكتشف "ثيودور" أن الجسد هو جزء أساسي من وجودنا البشري. الجسد ليس فقط أداة حواس، بل هو جزء من تفاعلنا مع العالم والمجتمع.
احتضان الوحدة هو الوجود
فيلم Her ليس مجرد قصة حب بين إنسان وذكاء اصطناعي، بل هو تأمل عميق في معنى الوجود البشري، وعلاقة العقل بالجسد، ومفهوم الحب والعلاقات.
من خلال معالجة الوعي، الحرية، والوجود المادي، يعكس الفيلم مدى تعقيد الكائن البشري ويكشف عن الجمال في تفاعلنا مع أنفسنا ومع العالم المحيط بنا. في النهاية، تظل "سامانثا" أكثر من مجرد برنامج، إنها انعكاس لفهمنا الخاص لذواتنا وللعلاقات التي نبحث عنها في عالم متغير.
aXA6IDMuMTI4LjMzLjIwOSA= جزيرة ام اند امز US