"معضلة الراكب المجاني" .. خيارات الرئيس ترامب في التعامل مع حلف "الناتو"
في مقاله “معضلة الراكب المجاني”.. خيارات الرئيس ترامب في التعامل مع حلف الناتو، يستعرض محمد بوبوش، أستاذ العلاقات الدولية والقانون الدولي بجامعة محمد الأول في المغرب، التحديات التي واجهها حلف شمال الأطلسي (الناتو) خلال الولاية السابقة للرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، وتأثير عودته الحتمية إلى البيت الأبيض على مستقبل التحالف.
يركز الكاتب على مواقف ترامب تجاه الحلف، التي اتسمت بالانتقاد الحاد لدور الحلفاء الأوروبيين ووصفهم بـ”الراكبين المجانيين”، نظرًا لاعتمادهم على القوة العسكرية الأمريكية دون تقديم مساهمات كافية. كما يناقش السيناريوهات التي قد تؤدي إلى إعادة هيكلة الحلف أو حتى تفككه في ظل الضغوط الأمريكية المستمرة على الشركاء الأوروبيين.
عبر تحليل معمق يجمع بين الاستعراض التاريخي والاستشراف المستقبلي، يطرح الأكاديمي المغربي تساؤلات حول قدرة الناتو على التكيف مع المتغيرات السياسية والجيوسياسية في ظل عودة ترامب. كما يبرز أهمية تعزيز استقلالية الدفاع الأوروبي لمواجهة التحديات الأمنية المتزايدة، خاصة مع تحول مسار الدعم الأمريكي التقليدي للناتو تحت قيادة ترامب، ما قد يعيد صياغة النظام الأمني العالمي.
وهذا نص المقال:
تلعب الولايات المتحدة دورًا محوريًا في حلف شمال الأطلسي، حيث تعتبر أكبر قوة عسكرية في الحلف وتساهم بنحو 70% من الإنفاق الدفاعي. تسعى الولايات المتحدة، من خلال الناتو، إلى تعزيز الأمن الجماعي للدول الأعضاء، والتصدي للتهديدات العالمية، وتعزيز التعاون العسكري والسياسي بين الدول الأعضاء.
وقد طرحت عودة ترامب المحتملة إلى البيت الأبيض تحديات كبيرة لمستقبل حلف شمال الأطلسي (الناتو)، نظرًا لتوجهاته السياسية تجاه الحلف، التي تميزت بالانتقاد والوعيد والشكوك حول الالتزامات الأمريكية في أوروبا. وعلى عكس بايدن، الذي يرى في الناتو جزءًا أساسيًا من الدور العالمي للولايات المتحدة وعنصرًا جوهريًا لأمنها وازدهارها، يعتبر ترامب أن حلف الناتو مثّل عبئًا على الولايات المتحدة لعقود وصفقة غير مربحة. فهو يرى أن واشنطن دعمت أمن حلفاء أثرياء دون أن تحصل على الكثير في المقابل.
تحول حلف شمال الأطلسي (ناتو)، مرة أخرى، إلى موضوع جدل جيوسياسي، بعد أن أعرب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عن انتقاداته لدول الحلف التي لا تلتزم بدفع ما عليها من استحقاقات مالية، بل وتهديده بتشجيع روسيا على مهاجمتها.
ولا يثير هذا الجدل تساؤلات حول مصداقية أكبر تحالف عسكري في العالم فحسب، بل أدخل بعض الدول الأعضاء، مثل ألمانيا، في دوامة من الحيرة واستكشاف عدد من الخيارات في حال أعيد انتخاب ترامب مرة أخرى.
سياسة ترامب تجاه حلف الناتو
تاريخيًا، تولت الولايات المتحدة الدور القيادي في هذا التحالف منذ تأسيسه عام 1949. فقد أصبح الأمريكيون الدعامة الأساسية لحلف الناتو وصمام الأمان لأوروبا في مواجهة المد الشيوعي، نظرًا لنقص الموارد لدى أوروبا، لا سيما المالية والمادية والصناعية. وفي مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ركزت الجهود أولًا على تعبئة أوروبا لإعادة الإعمار والتحديث في إطار ما أطلق عليه مشروع مارشال.
في عام 2017، وقبل أن يتولى منصب الرئاسة في الولايات المتحدة، وصف دونالد ترامب حلف الناتو بأنه “عفا عليه الزمن”، مبررًا ذلك بعدم تصديه للإرهاب، وموجّهًا انتقادات لدوله لعدم تحملها نصيبها العادل من تمويل الدفاع المشترك. بعد ذلك بعامين، زاد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من الشكوك حول مستقبل الحلف، بتصريحه أن الناتو في حالة “موت دماغي”.
لكن مع بدء الغزو الروسي واسع النطاق لأوكرانيا في فبراير 2022، بدا وكأن الحلف استعاد عافيته. فقد عاد “العدو الأصلي” ليمنح الناتو فرصة للتوحد مجددًا حول هدف مشترك.
-العلاج بالصدمة: تقليل الدعم المالي والعسكري
ترامب طالب عدة مرات الدول الأعضاء بزيادة إنفاقها الدفاعي ليصل إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي، وألمح إلى أن الولايات المتحدة قد تقلل من دعمها إذا لم تفِ الدول الأوروبية بالتزاماتها. عودته قد تؤدي إلى تقليص الدور الأمريكي في تمويل ودعم أنشطة الناتو.
تكتسب هذه الدعوة أهمية خاصة في ظل الأزمة الأوكرانية والمخاوف من تقارب روسي-أمريكي على حساب كييف وباقي دول القارة العجوز.
ومن المتوقع أن يصل إنفاق الولايات المتحدة الدفاعي إلى رقم قياسي قدره 968 مليار دولار في عام 2024، في حين تُقدر ميزانيات الـ30 حليفًا أوروبيًا بالإضافة إلى كندا بنحو 506 مليارات دولار، أي 34 بالمئة من الإجمالي الكلي.
وفي نهاية غشت 2024، قال ترامب إن الدول الأعضاء في الناتو يجب أن تنفق على الأقل 3% من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع، بدلًا من الإرشادات الحالية التي تحدد النسبة بـ2%.
– التركيز على “أمريكا أولاً”
يتبنى ترامب نهجًا شعبويًا يتمحور حول شعار “أمريكا أولاً”، الذي يطبقه في المجالين الاقتصادي والعسكري. وفيما يتعلق بحلف الناتو، فهو يؤمن بضرورة أن تسدد الدول الأعضاء تكلفة الحماية التي توفرها لها الولايات المتحدة. من بين الدول الأكثر قلقًا من مواقفه ألمانيا، إذ لم يكتفِ ترامب بالتشكيك في أهمية الناتو، بل هدد أيضًا بسحب القوات الأمريكية المتمركزة على أراضيها.
منذ عام 2014، تضغط الولايات المتحدة على دول الناتو لزيادة مساهماتها في الإنفاق الدفاعي إلى 2% من ناتجها المحلي الإجمالي، إلا أن كثيرًا منها لم يلتزم بهذا الهدف حتى الآن.
من المحتمل أن يركز ترامب على سياسة “أمريكا أولاً”، مما قد يعني تركيزًا أكبر على القضايا الداخلية والأمن القومي الأمريكي المباشر. هذا يمكن أن يؤدي إلى إعادة النظر في بعض العمليات العسكرية المشتركة أو الحد من الالتزام الأمريكي بالعمليات الدفاعية خارج الحدود.
– التفاوض على شروط جديدة
قد يسعى ترامب لإعادة التفاوض على بنود العضوية أو المشاركة، خاصة تلك المتعلقة بمبدأ الدفاع الجماعي (المادة 5 من معاهدة الناتو). مثل هذا التوجه قد يضعف تماسك الحلف ويؤثر على استراتيجية الردع المشترك.
وقد سبق أن وصف كل من الرئيس باراك أوباما ودونالد ترامب أعضاء الناتو الأوروبيين بـ”الراكبين المجانيين” (Free Riders)، كناية عن كونهم يستفيدون من الموارد أو المنافع العامة أو الخدمات دون دفع المقابل. وتساءلوا عن جدوى عضويتهم. علاوة على ذلك، أعلن الرئيس ترامب أن حلف الناتو “عفا عليه الزمن” خلال اجتماع قمة الناتو عام 2018.
– التقارب مع روسيا
كان موقف ترامب تجاه روسيا مثيرًا للجدل في فترته الأولى، حيث عبّر عن رغبته في إقامة علاقات أفضل مع موسكو. عودته قد تُترجم إلى سياسات أقل عدائية تجاه روسيا، مما قد يضعف جهود الناتو في ردع التهديدات الروسية، خاصة في دول أوروبا الشرقية.
ويُذكر أن ترامب صرح فور إعلان فوزه في الانتخابات بأنه سيتحدث إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كما أفاد في وقت سابق بأنه تحدث تقريبًا إلى 70 من قادة العالم منذ انتخابه.
من التحديات البارزة التي أثيرت مع وصول ترامب إلى السلطة كان الخوف من احتمال تخليه عن دعم أوكرانيا، أو دفعها إلى قبول تسوية مع روسيا قد تكون على حساب مصالح كييف. هذا السيناريو يثير قلق غالبية الدول الأوروبية، وخاصة ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، إلى جانب مخاوفهم من احتمال تشكيك ترامب في المادة الخامسة من ميثاق الحلف، التي تلزم جميع أعضائه بالدفاع عن أي دولة في الحلف تتعرض لعدوان خارجي.
وبالتالي، يمكن اعتبار “الناتو” من أوائل الخاسرين مع عودة ترامب، إلا إذا استطاع الحلف إقناعه بأن قوته واستمراره ليسا في مصلحة أوروبا فقط، بل يخدمان المصالح الأمريكية أيضًا.
– احتمال خروج الولايات المتحدة من الناتو
رغم أن انسحاب الولايات المتحدة من الناتو يُعتبر خطوة جذرية، إلا أن ترامب ألمح سابقًا إلى هذا الخيار. رغم القيود التشريعية على الانسحاب من المعاهدات الدولية، إلا أن ترامب استغل ثغرات قانونية. ففي عام 2020، تجاهلت إدارة ترامب المتطلبات القانونية عندما قررت الانسحاب من معاهدة “الأجواء المفتوحة”.
واستندت الإدارة في ذلك إلى رأي قانوني صادر عن مكتب المستشار القانوني في وزارة العدل، بقيادة ستيفن إنجل، الذي أكد أن سلطة الرئيس في الانسحاب من المعاهدات تنبع من دوره الدستوري باعتباره “الجهاز الوحيد للأمة في علاقاتها الخارجية”.
منح هذا الرأي القانوني الرئيس سلطة تقديرية واسعة في إدارة الشؤون الخارجية وتنفيذ المعاهدات أو إنهائها دون قيود من الكونغرس على القرارات الدبلوماسية.
إذا قرر فعلاً الدفع نحو هذه الخطوة، فسيكون لذلك تأثير مدمر على الحلف، حيث تعتمد قدرات الناتو بشكل كبير على الجيش الأمريكي.
ويعتقد مسؤولون سابقون في الناتو أنه، على الرغم من التهديدات التي وجهها ترامب لحلف شمال الأطلسي، فإنه من غير المرجح أن ينسحب من الحلف بشكل كامل، ولكنه سيواصل الضغط عبر تكتيك “العلاج بالصدمة” لدفع الدول الأوروبية لزيادة إنفاقها الدفاعي وتعزيز مساهمتها العسكرية.
فالولايات المتحدة متشابكة بعمق مع التحالف من حيث التخطيط ونشر القوات والبنية التحتية والقواعد. كما أن القواعد الأمريكية في أوروبا حيوية لنشر قوات واشنطن في الشرق الأوسط وآسيا وإفريقيا. بالإضافة إلى ذلك، فإن الكثير من الأموال الإضافية التي تنفقها الدول الأوروبية على الدفاع تذهب إلى شركات الدفاع الأمريكية، مما يخلق آلاف الوظائف ويحقق أرباحًا جيدة في الولايات المتحدة.
– زيادة التوترات داخل الحلف:
منذ بداية العقد الثاني من الألفية، بدأت التوترات تتجدد داخل التحالف العسكري. فالتحديات التي تواجه كل دولة عضو تختلف من واحدة إلى أخرى، وأولويات الحلفاء لم تكن دائمًا متوافقة.
لقد انقسم أعضاء الحلف بين من ركزوا بشكل أساسي على تهديد “الدب الروسي”، ومن كانوا منشغلين بمكافحة الإرهاب وهجمات “الذئاب المنفردة” في الداخل الأوروبي. كل طرف دافع عن مصالحه الخاصة، وعاش في سياق جيوسياسي مختلف، مما أدى إلى إضعاف التحالف بشكل كبير.
السياسات التي قد يتبناها ترامب قد تؤدي إلى تعميق الخلافات بين الدول الأعضاء، خاصة إذا كانت بعض الدول الأوروبية تعتبر روسيا تهديدًا مباشرًا، بينما قد تسعى الإدارة الأمريكية للتقارب معها.
بدون القيادة العسكرية الأمريكية، قد تنقسم الدول الأوروبية بشأن الحرب في أوكرانيا. فقد تسعى دول أوروبا الوسطى والشرقية إلى دعم أوكرانيا بقوة، خوفًا من أن يؤدي انتصار روسي إلى تعزيز موسكو وتشكيل تهديدات جديدة، بينما قد تميل بعض دول أوروبا الغربية إلى الضغط على أوكرانيا لتقديم تنازلات كبيرة لروسيا بهدف تجنب المزيد من النزاعات.
يبدو من غير المرجح أن يسحب ترامب الولايات المتحدة من حلف شمال الأطلسي بالكامل، ولكن هناك العديد من الطرق لإلحاق الضرر بالحلف. على سبيل المثال، قد يقوم ترامب بإزالة الولايات المتحدة من القيادة العسكرية ــ وهذا ما فعلته فرنسا في عام 1966.
آثار محتملة على العلاقات عبر الأطلسي
على مدار أكثر من 100 عام، تمثلت مصلحة الولايات المتحدة الوطنية الثابتة في أوروبا في الحفاظ على توازن القوى داخل القارة. فقد سعت إلى ضمان بقاء القوة الاقتصادية والعسكرية موزعة بين عدة دول، ومنع ظهور قوة أوروبية مهيمنة تحتكر تلك القوة لصالحها.
قد تدفع هذه الاستراتيجية أوروبا إلى تعزيز سياستها الدفاعية المستقلة بعيدًا عن الولايات المتحدة، وهو ما قد يؤدي إلى ظهور شراكات أوروبية دفاعية جديدة أو تقوية الاتحاد الأوروبي دفاعيًا عبر الاستثمار بشكل أكبر في الدفاع، خاصة في دول مثل ألمانيا وفرنسا، لتعويض أي فراغ محتمل في الدعم الأمريكي.
– تنامي التهديدات الروسية
تعتبر روسيا أكثر خطورة بسبب موقعها الجغرافي و”سياستها العدوانية” و”أساليبها الهجينة”. وقد يشجع تقليل الالتزام الأمريكي روسيا على اتخاذ خطوات عدائية في أوروبا الشرقية، مثل تعزيز وجودها العسكري بالقرب من الحدود الأوروبية أو زيادة دعمها للنزاعات الإقليمية.
حدث ذلك في جورجيا عام 2008، حيث تقاعس الحلف عن التدخل خلال حكم الرئيس جورج دبليو بوش الابن. وفي عام 2014، بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، تبنى حلف شمال الأطلسي سياسة التصعيد ضد روسيا وأنهى اتفاقية الشراكة معها. وفي عام 2016، نشر الحلف أربع كتائب متعددة الجنسيات في بولندا ودول البلطيق للدفاع عنها ضد أي عمل روسي متهور، وهو ما مثل أكبر تطبيق للدفاع الجماعي في الحلف منذ نهاية الحرب الباردة.
– الاستعداد الأوروبي
دول أوروبا الشرقية، مثل بولندا ودول البلطيق، قد تسعى لتعزيز قدراتها العسكرية أو بناء تحالفات داخل الناتو ومع الدول الأوروبية الكبرى.
يُذكر أن دول البلطيق – أي إستونيا ولاتفيا وليتوانيا – شديدة الضعف أمام العدوان الروسي بحكم صغر حجمها. كما أن السكان الناطقين بالروسية في كل من إستونيا ولاتفيا قد يكونون عرضة للتلاعب الروسي لخدمة استراتيجيات حرب غير تقليدية أو هجينة.
أما ليتوانيا، فهي أيضًا منطقة معرضة للنزاع بسبب حدودها المتاخمة لمقاطعة كالينينغراد الروسية.
على غرار دول البلطيق، أبدت بولندا اهتمامها بتوثيق التعاون الدفاعي مع الولايات المتحدة بفعل التغيرات التي طرأت على البيئة الأمنية في المنطقة، بسبب مخاوفها من أن تعرضها لاعتداء روسي مستقبلي. فقواتها المسلحة الجوية وغير الجوية محدودة وضئيلة، وهي عاجزة تمامًا في الوقت الحالي عن حماية نفسها من أي اعتداء روسي حازم بدون مساعدة خارجية. ولذلك، فهي تتوق إلى أي تعامل تعرضه عليها الولايات المتحدة أو الحلف الأطلسي.
مستقبل الناتو: سيناريوهات محتملة
– سيناريو التعاون المستمر
إذا تمكن ترامب من تحقيق توافقات مع الحلفاء حول تمويل الدفاع، قد يستمر الناتو بشكله الحالي.
للحلف مصلحة مشتركة في المساهمة في الاستقرار ومنع وإدارة الصراعات والاستجابة لها عندما يكون من المحتمل أن تؤثر على أمن الأعضاء والحلفاء.
وبحسب وثيقة الأمن الاستراتيجي لسنة 2022، فإن إدارة الأزمات تتم في أحد جوانبها عبر الاهتمام بالأمن البشري وحماية المدنيين، وهو ما يتطلب تعزيز التعاون مع الجهات الفاعلة لمعالجة الظروف التي تؤجج الأزمات وتقوض الاستقرار في مختلف الدول.
– سيناريو التفكك التدريجي
إذا تصاعدت الخلافات، قد يكون هناك توجه نحو تقسيم داخل الحلف أو انسحاب بعض الدول.
تواجه أوروبا تحديات كبيرة في تحديد من سيتولى القيادة الأمنية في حال انسحاب الولايات المتحدة. فألمانيا، رغم قوتها الاقتصادية، تعاني من عدم استقرار سياسي يجعلها غير قادرة على قيادة الجهود الأمنية الأوروبية بفعالية.
أما فرنسا، على الرغم من قوتها العسكرية وامتلاكها للأسلحة النووية، فقد تكون موضع تساؤل حول استمرارية التزامها بالاستقرار الأمني.
في حين أن المملكة المتحدة، التي تعد قوة نووية أيضًا، قد تجد صعوبة في تحقيق توافق داخل الاتحاد الأوروبي بسبب قرارها بالخروج من الاتحاد.
في هذا السياق، تبرز بولندا كمرشح قوي لتولي القيادة الأوروبية، بفضل استثماراتها الكبيرة في الدفاع وفهمها العميق للمخاوف الأمنية لدول الجبهة الشرقية.
ومع الحدود المشتركة مع روسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا، تتفهم بولندا بشكل أفضل التهديدات الأمنية التي تواجه القارة، ما يجعلها شريكًا محوريًا في الاستراتيجية الدفاعية الأوروبية المستقبلية.
– سيناريو التحالفات البديلة
قد يسعى الأوروبيون لتعزيز التعاون مع دول آسيوية أو الانخراط بشكل أوسع في الدفاع الذاتي.
في حال فشل حلف شمال الأطلسي في تحقيق تغييرات جذرية تلبي شرط المساهمة بنسبة 2٪ من الناتج المحلي الإجمالي، بهدف تخفيف الانتقادات الأمريكية للتحالف، فقد يؤدي ذلك إلى تصاعد النقد تجاه الدول الأوروبية، مما سيجعلها أكثر تهميشًا على الساحة الدولية.
في الوقت نفسه، قد تؤدي المخاوف الأمنية الناجمة عن توسع عضوية الحلف ومحاولات روسيا لتهديد الدول المنضمة حديثًا إلى شل فعالية التحالف في مواجهة الأزمات المستقبلية.
من جهة أخرى، تواصل تركيا الابتعاد عن الحلف وتقوية علاقاتها مع روسيا والصين، وهو ما سيجعل الناتو يستمر بوضعه الحالي، لكنه قد يميل تدريجيًا ليشبه كيانًا سياسيًا أكثر من كونه تحالفًا عسكريًا.
التوصيات والمستخلصات
– دعم الاستقلالية الدفاعية الأوروبية
من الضروري تعزيز قدرة أوروبا على الدفاع عن نفسها كوسيلة للحفاظ على الأمن الأوروبي، حتى في ظل التغيرات السياسية الأمريكية.
تعمل بروكسل على تغيير سياسات الإنفاق الخاصة بها لإعادة توجيه عشرات المليارات من اليورو إلى الدفاع والأمن، حيث تزيد حرب أوكرانيا وعودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض من الضغوط على الاتحاد الأوروبي لتعزيز الاستثمار الدفاعي.
وسوف ينطبق التحول السياسي على حوالي ثلث الميزانية المشتركة للاتحاد، أو حوالي 392 مليار يورو من عام 2021 إلى عام 2027. وهي الأموال التي تهدف إلى الحد من التفاوت الاقتصادي بين دول الاتحاد الأوروبي. ولم يتم إنفاق سوى نحو 5% من هذه الأموال المخصصة للتماسك حتى الآن، في حين أنفق أكبر المستفيدين، بما في ذلك بولندا وإيطاليا وإسبانيا، أقل من ذلك.
وبموجب القواعد الحالية، لا يمكن استخدام هذه الأموال لشراء معدات دفاعية أو تمويل الجيش بشكل مباشر، ولكن الاستثمار فيما يسمى بالمنتجات ذات الاستخدام المزدوج مثل الطائرات بدون طيار مسموح به.
ومن ثم، فإن زيادة الإنفاق الأوروبي على الحلف من شأنه تقليل تحديات أمن أوروبا، ومن ثم يحافظ على عدم انكشافها الاستراتيجي أمام النفوذ الروسي المتنامي، لا سيما في دول البلطيق الثلاث (إستونيا، ولاتفيا، وليتوانيا). وهذا ما يعزز استمرار الحلف في الوجود.
– تطوير الحوكمة داخل الناتو
يبدو مستقبل حلف شمال الأطلسي غامضًا من جوانب مختلفة. فبعد أكثر من ثلاثين سنة من انتهاء الحرب الباردة، يظل السؤال عن مبرر وجود الحلف مطروحًا.
هناك، على ما يبدو، مقياس لـ”الإعياء الناجم عن عملية التوسيع”، وهو بات الآن ملحوظًا، خاصة فيما يتعلق برغبة أوكرانيا في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي. ولهذا، فإن الحلف الآن، أكثر من أي وقت مضى، بحاجة واضحة إلى عملية إعادة تقييم جذرية لمبرر وجوده، ولأهدافه البعيدة المدى، وكذلك للتوازن بين قطبيه الأمريكي والأوروبي.
الناتو قد يحتاج إلى تطوير آليات جديدة لتجنب الاعتماد الكبير على التوجهات الأمريكية في ظل رؤساء غير مؤيدين للحلف.
ويتعين على الولايات المتحدة، من جانبها، أن تحول دورها في أوروبا من كونها ركيزة أساسية للأمن إلى مصدر دعم وموازنة بين القوى الأوروبية. ويتحقق ذلك من خلال تقليص وجودها العسكري، وتشجيع أوروبا على تطوير أنظمة الدفاع الخاصة بها، وإعادة تخصيص الموارد لمعالجة التحديات الأمريكية المحلية والعالمية الأخرى.
كما يجب على الحلف تطوير عقيدته على أسس ومبادئ جديدة وتوجهات متنوعة، خاصة في ظل التهديدات الأمنية الجديدة، وأن يلعب الحلف دورًا أكبر في مناطق أخرى استراتيجية، تحدد قوتها الولايات المتحدة الأمريكية (بحر الصين الجنوبي والباسيفيك).
ختامًا،
يمكن القول إن التطورات الأخيرة على الساحة العالمية أثبتت أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تستطيع أن تحافظ على الأمن الدولي بمفردها، ويجب أن تتقاسم قوى أخرى معها هذا الدور. ومن أبرز تلك القوى، حلف شمال الأطلسي، الذي يجب أن يحافظ هو الآخر على أمنه وكيانه.
فعندما انتهت الحرب الباردة، وتفكك الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو، اختفى التهديد الذي كانت تحاول دول الحلف التعامل معه. ونتج عن ذلك مرور فترة من الزمن كان الجميع يشعرون فيها بالسعادة لعدم وجود أي تهديد ظاهري، حتى أدركوا أن التهديد الذي يواجههم له طبيعة دولية، وكان موجودًا طوال الوقت.