ملحمة الكركرات..
أربع سنوات مرت اليوم على ملحمة الكركرات المجيدة، العملية العسكرية العالية المستوى التي استطاع العقل الاستراتيجي المغربي ترتيب وإنضاج الشروط الذاتية والموضوعية لتنفيذها.
متسلحا بالتدبير الاستراتيجي والهدوء الانفعالي والتخطيط الرصين لحل عقدة أزمة مفتعلة كان هدفها جر القوات المسلحة المغربية للدخول في مواجهة عسكرية مفتوحة مع مرتزقة الميليشيا في المسافة صفر، عملية تم تنفيذها بناء على تقدير موقف دقيق وفهم عميق وتحليل رصين للمعطيات الأمنية والعسكرية وطبيعة الانعكاسات الجيوسياسية التي يمكن أن يحدثها قرار استراتيجي من هذا الحجم، حيث أظهرت النتائج التي سطرها أسود الجيش الملكي المغربي بمختلف أفرعه وقواته، بكل الفخر والاعتزاز على قدرة المملكة المغربية الشريفة تحت القيادة الحكيمة لجلالة الملك محمد السادس، القائد الأعلى ورئيس الأركان العامة للقوات المسلحة الملكية المغربية، على الإنهاء الفوري بكل الحزم المطلوب وفق قواعد اشتباك واضحة المعالم والأهداف، لكل المخاطر والأضرار الممكن أن تهدد في أي وقت وأي زمان الأمن القومي للوطن أو المصالح العليا للشعب المغربي أو السيادة المغربية على أراضيه المقدسة من طنجة إلى الكويرة مرورا بالكركرات.
قبل التطرق لعملية تأمين المعبر الدولي الكركرات وانعكاس عملية التأمين على الأمن الإقليمي وعن الأهداف الخبيثة لميليشيا البوليساريو ومشغليها لخلق نزاع مفتعل مع المغرب في منطقة تشكل شريانا تجاريا مهما بين الأسواق الأوروبية وأسواق إفريقيا الغربية، لا بد من التذكير بأن القَدَرُ التاريخي الإمبراطوري للمغرب – كدولة أمة – يثير الكثير من التساؤلات ويخلق العديد من المخاوف لدى أغلب مراكز الأبحاث والاستشراف ومعاهد الدراسات المستقبلية وكذا الدوائر المغلقة في مختلف العواصم الدولية المحيطة بالرباط العاصمة. المتتبع لتاريخ الأمة المغربية منذ فجر التاريخ إلى اليوم يدرك جيدا طبيعة هذا الشعب المنتصر بشكل دائم والمحافظ على خصوصياته الثقافية والدينية والمجتمعية وطبيعة نظامه السياسي العريق، القائد لانتصارات حضارية شكلت منعطفات كبرى للشعوب في منطقة غرب المتوسط وشمال وغرب إفريقيا، فالتفاف الشعب المغربي عبر التاريخ حول المؤسسة الملكية “باعتبارها القيادة التاريخية والشرعية الوحيدة” لنضال المغاربة من أجل التحرر والحفاظ على استقلالية وسيادة القرار الوطني يجعلها مستهدفة بشكل دائم بحملات إعلامية مشبوهة تمولها جهات ودوائر معروفة بعدائها المستمر للمغرب والشعب المغربي، سواء باستخدام أدواتها من تجار الأزمات و”طريطورات” الاحتجاج والإعلام المشبوه المتخاذل ومرتزقة المواقف والطابور الخامس من العناصر الانفصالية، أو بالمواجهة المباشرة عن طريق اتخاذ مواقف سياسة وديبلوماسية تضر بالأمن القومي وسيادة والمصالح العليا للشعب المغربي.
هذه الدوائر والجهات تدرك جيدا أن الخط الأول والأخير للدفاع عن وحدة واستقرار وأمن وأمان هذا الوطن وحرية الشعب المغربي هو النظام الملكي والعرش العلوي المجيد بشرعيته التاريخية والدينية والدستورية، وبالتالي فالهجمات البئيسة المستهدفة لصورة الملك ومحاولة الإساءة إليه وإلى رمزيته في المخيال الشعبي المغربي ستظل هدفا دائما للمتربصين بالمغرب واستقلاله واستقراره ووحدته.
طوال سنوات حرب الصحراء بين القوات المسلحة الملكية المغربية ومرتزقة البوليساريو بإسناد لوجيستيكي ومالي من الجزائر وليبيا وكوبا وسوريا وإيران ومجموعة دول المعسكر الشرقي، كانت الاستراتيجية العسكرية المغربية تسير في اتجاهين متوازيين: صد هجمات العدو وبناء وتعمير وتنمية مختلف مدن الصحراء المغربية.
لذا اعتمد المغرب على استراتيجية خطوط الدفاع المتقدمة في الميدان مع ترك مساحات كبيرة من الصحراء الشاسعة للاشتباك مع العدو، بشكل يجعل المدن والمداشر والمصالح الاقتصادية آمنة بشكل كامل، فالمنطقة المحرمة شرق الجدار الأمني العازل كانت اختيارا استراتيجيا عسكريا هدفه تأمين الوحدات العسكرية والمدنيين وخطوط الإسناد بشكل فعال وليس تكتيكا حربيا ظرفيا أو نتيجة نهائية للحرب مع ميليشيا البوليساريو.
العقل الاستراتيجي المغربي ترك مناطق للاشتباك مع ميليشيا البوليساريو الإرهابية التي كانت تعتمد على حرب العصابات مستغلة شساعة الأراضي الصحراوية ووعورة التضاريس للقيام بهجمات خاطفة ومباغتة من أجل إلحاق خسائر في وحدات القوات المسلحة الملكية المغربية، هذا “التكتيك” واجهه الجيش المغربي بعمليات عسكرية نوعية نفذتها قوات النخبة خلف خطوط العدو مما كبدها خسائر فادحة في الأرواح والعتاد.
اعتمدت الاستراتيجية العسكرية المغربية إبان حرب الصحراء 1976- 1991 رغم تميزها وتكامل عناصرها باعتمادها روحا هجومية على اكتساب عمق استراتيجي داخل مناطق تحرك العدو واعتناق مبدأ الحدود الآمنة، مما وفر للمملكة المغربية عمقا استراتيجيا آمنا وبذلك أصبحت أي مواجهة قادمة مع ميليشيا البوليساريو ستكون شرق الجدار العازل حتى الحدود المغربية الموريتانية وداخل المناطق العازلة التي شكلها الجدار الأمني العازل في مراحل تشييده المختلفة، مع الاعتماد بشكل متزايد على القوات الملكية الجوية لتتحول إلى “الذراع” الطويلة للمغرب بتوفيرها الإسناد والدعم والتغطية للوحدات العسكرية المرابطة على الأرض مما أعطى للجيش الملكي المغربي الفرصة لتطوير وتنفيذ استراتيجية هجومية آمنة تهدف إلى امتصاص الهجومات الخاطفة التي تنفذها البوليساريو باعتماد نهج حرب العصابات.
بكل وضوح المنطقة العازلة أو المنطقة المحرمة أو المناطق شرق الجدار الأمني هي قرار استراتيجي عسكري مغربي له أهداف واضحة ومركزة وليس نتيجة من نتائج الحرب، نقول هذا الكلام كرد على أكاذيب وترهات ميليشيا البوليساريو التي تروج أسطورة الأرض المحررة وقصص وهمية عن مدن ومناطق وتشكيلات عسكرية لا توجد إلا في مخيلة قادتها من تجار البشر ومجرمي الحروب ومحترفي التهريب تروجها آلات البروباغندا داخل مخيمات الذل والمهانة لتأجيل انتفاضة المحتجزين وليلة الهروب الكبير من تندوف.
العبقرية العسكرية المغربية قامت بإنشاء جدار رملي عابر للصحراء المغربية عبارة عن ساتر رملي يلعب دور حائط للصد الاستراتيجي ضد هجمات عصابات البوليساريو، حيث تم تزويد هذا الجدار الأمني بمعدات تكنولوجية متطورة وأسلحة نوعية وحقل ألغام متقدم وتغطية جوية على مدار الساعة، لرصد تحركات العدو على مسافات آمنة والتعامل معها للحيلولة دون وصوله إلى القوات المرابطة داخله التي تقوم بحماية التراب الوطني والسيادة المغربية.
هذا الجدار الأمني هو دليل على صمود الشعب المغربي وإصراره على النصر والانتصار وحماية الأرض والعرض ضد كل معتدي خائن عميل حيث قامت هذه للمنشأة العسكرية بتجنيب المدن الآمنة والمدنيين العزل إرهاب ميليشيات البوليساريو وفرض قواعد اشتباك جديدة أدت بالميليشيا إلى قبولها صاغرة لاتفاقية وقف إطلاق النار تحت رعاية الأمم المتحدة والتي من أهم شروطها اعتبار المناطق شرق الجدار وجنوبه حتى الحدود الموريتانية مناطق محرمة دخولها على الآليات العسكرية وعناصر الميليشيا المسلحة وإلا اعتبرت انتهاكا صريحا للاتفاق.
في الوقت نفسه، كانت وحدات من الجيش المغربي تقوم بعمليات تمشيط روتينية لمطاردة عصابات البوليساريو حيث سطرت هذه الوحدات ملاحم كبرى يحفظها التاريخ العسكري بمداد من الذهب، تخلد شجاعة الجندي المغربي وتضحياته الجسام من أجل الذود عن المقدسات الوطنية بشعاره الخالد – الله الوطن الملك-.
بالعودة لعملية الكركرات وأهميتها في التاريخ المعاصر وبقراءة مقتضبة لتاريخ الإمبراطورية المغربية بحدودها التاريخية العابرة للصحراء الإفريقية، نجدها جزءا لا يتجزأ من التاريخ المغربي العريق بامتداداته الأمازيغية العريقة وبالتالي فالمنطقة منذ عشرات الآلاف السنين وهي تلعب دورها المحوري في ربط المغرب مع عمقه الإفريقي وفي مراحل معينة ربط شمال الإمبراطورية المغربية مع أراضيها في الجنوب.
معبر الكركرات الحدودي أعاد اكتساب أهميته الاقتصادية مع سنوات الاستقرار الطويلة مع الإدارة المغربية على الأقاليم الجنوبية وتزايد الجهد التنموي بها وزيادة الفرص التنموية بموريتانيا وإفريقيا الغربية، وكذا إغلاق الحدود المغربية / الجزائرية وتصاعد المجهودات المغربية لمكافحة التهريب وتجارة المخدرات باستخدام دروب ومسالك الصحراء الشاسعة.
غير المغرب المعادلة الجيوسياسية الإقليمية في 14 غشت 2016 بتطهير المنطقة صفر (قندهار) بين الكركرات وبولنوار في موريتانيا وتجنب سيناريو معبر إسلام قلعة الحدودي بين أفغانستان وإيران عندما سيطرت عليه الجماعات المتشددة في يوليوز 2021 وحولته إلى منطقة أمنية فاشلة، حيث كانت هذه العملية الأمنية التمشيطية بداية تكريس المغرب سيادته الكاملة على معبر الكركرات والمنطقة العازلة ابتداء 13 نونبر 2020.
حيث قامت السلطات المغربية بعملية تمشيط واسعة لمنطقة “قندهار” المحاذية لمعبر الكركرات والتي كانت مرتعا لتجار التهريب وتجار المخدرات، وازدادت أهمية معبر الكركرات مع انطلاق السياسة الإفريقية الجديدة للمغرب بزيارات ملكية سامية لمختلف أقاليم القارة الإفريقية ودولها، وبشكل خاص دول غرب إفريقيا مع ضخ استثمارات ضخمة وتوقيع اتفاقيات هامة للتبادل التجاري والاقتصادي حيث قام العقل الاستراتيجي المغربي بتفكيك عناصر الأزمة الإقليمية وتحويلها إلى فرص تنموية مهيكلة وفاعلة كباقي المشاريع التنموية المهيكلة الكبرى الذي دشتنها المملكة المغربية منذ إطلاق السياسة الإفريقية الجديدة للمملكة المغربية في إفريقيا في إطار استراتيجية التعاون جنوب – جنوب وفق مبدأ رابح – رابح كمشروع الأنبوب الأطلسي – الإفريقي ومسلسل الرباط للدول الإفريقية الأطلسية والمبادرة الملكية الدولية لدول الساحل الإفريقي التي تسمح لدول الساحل بالوصول إلى المحيط الأطلسي وفق مقاربة تشاركية تعتمد على النجاعة والاستدامة والشمول.
هذه الاستراتيجية الاقتصادية المغربية في إفريقيا أزعجت مختلف الدوائر الإقليمية والدولية، وفي محاولة لتحجيمها تم تحريك الأنظمة الوظيفية التي تخدم القوى الاستعمارية عن طريق أدواتها من ميليشيا البوليساريو الإرهابية لتعطيل معبر الكركرات الحدودي وإعاقة انسيابية البضائع وحركة تنقل الأشخاص بين المغرب وعمقه الإفريقي مما كبد الاقتصاد الوطني خسائر مادية كبيرة.
بعد أحداث إكديم إزيك وتفكيك خلية أمغالا الإرهابية وطبيعة الأسلحة النوعية التي حجزتها قوات إنفاذ القانون المغربية من راجمات صواريخ ومضادات للدروع وأسلحة كلاشينكوف وفي إطار استراتيجية المملكة المغربية لضبط الحدود تأمينها ومحاربة التهريب والمخدرات ومكافحة الإرهاب والجماعات المسلحة قامت السلطات المغربية ابتداء من غشت 2016 بعمليات تطهير واسعة لمنطقة “قندهار” الواقعة بين معبر الكركرات الحدودي والمعبر 55 الموريتاني ببولنوار انتهت بطرد المهربين وتجار المخدرات وهدم أعشاشهم والسواتر الترابية التي أنشئت لعرقلة السير في المحور الطرقي بين المغرب وموريتانيا.
في الـ 26 من فبراير 2017 قرر المغرب الانسحاب بشكل أحادي من منطقة الكركرات على خلفية دعوة الأمم المتحدة البوليساريو إلى تجنب تصعيد التوتر في المنطقة داعيا الأمين العام للأمم المتحدة إلى العمل على العودة إلى الوضعية السابقة للمنطقة المعنية، والحفاظ على وضعها، وضمان مرونة حركة النقل البري الاعتيادية، والحفاظ على وقف إطلاق النار، وتعزيز الاستقرار الإقليمي.
في يونيو 2018، عرف المعبر مرة أخرى عملية عرقلة عندما أقدمت عناصر من قطاع الطرق منتمية لميليشيا البوليساريو بقطع الطريق واعتراض سبيل الشاحنات المغربية والدولية مما تسبب شلل في حركة السير وتعطيل مصالح عدد من التجار المغاربة والأفارقة.
في بيان لوزارة الخارجية والتعاون المغربي أكد “أن البوليساريو ومليشياتها التي تسللت إلى منطقة الكركرات منذ 21 أكتوبر 2021، وقامت بأعمال عصابات هناك وبعرقلة حركة تنقل الأشخاص والبضائع على هذا المحور الطرقي، كما تقوم بالتضييق باستمرار على المراقبين العسكريين للمينورسو”.
هذه العمليات الاستفزازية قابلها المغرب بأقصى درجات ضبط النفس متسلحا بالهدوء الاستراتيجي حيث كانت استفزازات أخرى تقوم بها عناصر تابعة للميليشيا في ضد العسكريين المغاربة في الجدار العازل.
بعد ضبط المعطيات وفهم دقيق للوضع وتهيئ كل الشروط الذاتية والموضوعية قامت القوات المسلحة الملكية المغربية بأوامر من القائد الأعلى رئيس أركان الحرب العامة جلالة الملك محمد السادس يوم 13 نونبر 2020 بعملية عسكرية دقيقة ببعد أمني صرف ترمي إلى تأمين المحور الطرقي بين المغرب وموريتانيا وطرد عصابات البوليساريو لتسطر ملحمة أخرى من ملاحم الجيش المغربي المنتصر وتنضاف إلى انتصارات الشعب المغربي المتعددة.
في يوم 21 أكتوبر 2020 ظهرت شرذمة من قطاع الطرق التابعين لميليشيا البوليساريو الإرهابية في المنطقة العازلة بين الكركرات وبولنوار يقومون باستفزازات ضد سائقي شاحنات النقل الدولي مشهرين أسلحة بيضاء في حالة عدم امتثالهم، ثم القيام بإغلاق المحور الطرقي وإنشاء ما يشبه المعتصم المفتوح ثم لتظهر قيادات الميليشيا ممثلة في مجرم الحرب إبراهيم غالي وبطانته في المناطق الساحلية القريبة لأخذ صور استعراضية لترويجها في المخيمات وليقدموا دليلا ملموسا لقيادات النظام العسكرتاري بإتمام المهمة الدنيئة.
بعد أكثر من ثلاثة أسابيع من وصول أفراد عصابات ميليشيا البوليساريو إلى منطقة الكركرات وعرقلتهم لسير تنقل الأشخاص والبضائع في محور طرقي له من الأهمية بمكان حيث أنه يربط بين قارتين ويؤمن الاحتياجات الاقتصادية لجزء كبير من سكانهما بالإضافة إلى أنه أصبح ممرا أساسيا وشريانيا مهما بين المغرب وعمقه الإفريقي فمنه تمر الإمدادات الغذائية المغربية لمختلف الأسواق الإفريقية ومن بينها موريتانيا التي تضرر أمنها الغذائي بشكل كبير حيث تضاعفت فيها أثمنة المواد الغذائية لأرقام مهولة عجلت بعقد مجلس وزاري في موريتانيا لبحث هذه الإشكالات وانتهت بتصريح لوزيرة التجارة والصناعة والسياحة الموريتانية، الناها بنت حمدي ولد مكناس التي أوعزت هذه الزيادات إلى ظروف خارجية.
صبيحة يوم 13 نونبر 2020 كانت ساعة الصفر المنتظرة وكان بيان القيادة العامة للقوات المسلحة الملكية المغربية يفند كل الشائعات والأكاذيب التي بدأت تروجها الصفحات الفاشلة للطرف الآخر، حيث أكد البيان على أنه “وتنفيذا للتعليمات الملكية السامية للملك محمد السادس، تم تنفيذ عملية بتاريخ 13 نوفمبر 2020، وفق قواعد اشتباك واضحة تقضي بتجنب أي اتصال للقوات المسلحة الملكية مع الأشخاص المدنيين”، حيث نفذت القوات المسلحة الملكية المغربية عملية دقيقة تهدف إلى طرد ميليشيات البوليساريو وتطهير معبر الكركرات الحدودي من دنسهم بطريقة احترافية غاية في المهنية والانضباط تؤكد على الخبرة التي راكمتها طوال عقود من العمل الميداني المباشر في ميدان الحرب عنوانه الحزم والرد السريع الاستراتيجي حيث أورد البلاغ أنه “أطلقت ميليشيا “البوليساريو” المسلحة النار على القوات المسلحة الملكية التي ردت من جانبها وأجبرت عناصر الميليشيا على الفرار دون تسجيل أي أضرار بشرية”، لتنتهي العملية الخاطفة حسب البيان: “بتأمين ممر الكركرات بين المغرب وموريتانيا بشكل كامل، من خلال إقامة حزام أمني من قبل القوات المسلحة الملكية، بناء على تعليمات الملك محمد السادس، القائد الأعلى ورئيس أركان الحرب العامة للقوات المسلحة الملكية”.
على مستوى آخر كان الجهاز الديبلوماسي المغربي يقوم بعمل نوعي بإجراء اتصالات عاجلة مع كل القوى الفاعلة والأصدقاء والأشقاء لتوضيح الصورة ورفع اللبس وتبيان حقيقة الموقف بعيدا عن التضليل والترهات ونشر الأخبار الزائفة وبالفعل كان التجاوب العالمي الكبير لموقف المغرب الشرعي وحقه القانوني في حماية سيادته وتطهير أرضه من شرذمة من المرتزقة الخونة قاطعي الطرق.
توالت بلاغات الدعم والمساندة والمؤازرة من مختلف المنظمات الدولية والقوى العظمى والدول الشقيقة والصديقة، هذا الدعم الديبلوماسي المنقطع النظير والتفاف العالم حول الرباط في مساعيها المشروعة لإنهاء الوضع الشاذ في معبر الكركرات هو دليل على الثقة الكبرى الذي تضعها دول العالم في نوايا المغرب الدائمة من أجل السلام والحفاظ عليه من خلال ديبلوماسية ملكية رائدة داعمة لكل فرص السلام والسلم في العالم ثم تأكيد على ثبات الموقف المغربي وأحقيته البالغة في حماية سيادته الترابية ضد ميليشيا البوليساريو الإرهابية ويؤكد على الدور الهام الذي تلعبه المؤسسات السيادية والأجهزة الديبلوماسية في الحفاظ على المصالح العليا للشعب المغربي والأمن القومي للمغرب بدعم من الجبهة الداخلية الموحدة الصامدة القوية والالتزام الوطني الصادق من الجميع.
حالة الصدمة والذهول التي عاشها العدو بعد العملية العسكرية بنتائجها الميدانية والسياسية الصاعقة أفقدته توازنه الميداني والنفسي، ليتخذ مجرم الحرب إبراهيم غالي في محاولة لبعثرة الأوراق الإقليمية قرارا عبثيا بهلوانيا بإعلان حرب زائفة ضد المغرب عن طريق “أقصاف” وهمية ببلاغات كاذبة لذر الرماد على أعين الجوعى والمحتجزين في مخيمات تندوف وترويج الوهم بانتصارات هلامية ودفع المتمردين على قراراته إلى المنطقة المحرمة في عمليات عبثية حيث تنتظرهم المسيرة المغربية.
حاولت ميليشيا البوليساريو أكثر من مرة اختراق المنطقة العازلة للقيام بعمليات معزولة تستهدف القوات المغربية المرابطة على الجدار، لكن كان الرد الحازم من المدفعية الملكية والمسيرات الجوية التي حولت المنطقة العازلة إلى منطقة محرمة بالنسبة لعربات وأفراد المخيمات وتحركاتهم المريبة آخرها عملية المحبس البهلوانية التي استهدفت ترويع المدنيين الآمنين في احتفالات المسيرة الخضراء المظفرة والتي واجهتها القوات المسلحة الملكية بكثير من الحزم والقوة التدميرية اللازمة وهو ما عبر عنه جلالة الملك محمد السادس في خطابه يوم 6 نونبر 2020 قائلا: “إن المغرب سيظل ثابتا في مواقفه، ولن تؤثر عليه الاستفزازات العقيمة، والمناورات اليائسة، التي تقوم بها الأطراف الأخرى، والتي تعد مجرد هروبا إلى الأمام، بعد سقوط أطروحاتها المتجاوزة”.
لا يمكن فصل أحداث الكركرات عن ما يقع في المحيط الجيوسياسي للمملكة المغربية، فقد جاءت بعد سنة من جائحة كورونا ونجاح المغرب في الحجر الصحي والتزام الشعب المغربي بـ “أوامر” الدولة المغربية وقدرة الاقتصاد الوطني على تجاوز حالة الصدمة وخروجه بأقل الخسائر، في جانب آخر الموقف الجيوسياسي المرتبط بملف ترسيم الحدود البحرية في الأقاليم الجنوبية وفشل الجزائر في تمرير مقررات معادية للوحدة الترابية في الاتحاد الإفريقي، كلها عوامل جعلت بعض الدوائر الدولية والأنظمة الوظيفية التابعة لها تنظر بانزعاج لما يحققه المغرب وحيدا في مواجهة تحديات خارجية وداخلية، لذا كان المخطط بإشعال جبهاته الجنوبية بحرب إقليمية لتعطيل مساره التنموي، الكركرات كانت هي ساعة الصفر لإغراق المغرب في أذيال التبعية والجمود، لكن العبقرية الاستراتيجية المغربية والفهم الدقيق للوضع الجيوسياسي العالمي وفن امتلاك المعلومة واستخدامها في الزمكان المناسب حول “الكركرات” إلى عامل قوة في المسار التاريخي للمغرب الذي أعاد ترتيب المشهد الإقليمي بما يناسب توجهاته الداخلية بحزم وقوة.
تطهير معبر الكركرات، إعلان ميليشيا تندوف الحرب الوهمية، إغلاق موريتانيا الحدود الشمالية، إعلان الجزائر عن طائرتين عسكريتين محملتين بأطنان من المساعدات إلى مخيمات الذل والعار في إشارة إلى أنها مستعدة لدعم لامحدود للميليشيا وتصاعد الدعم الإيراني لميليشيا البوليساريو عن طريق وكلائها في حزب الله، كلها إشارات إلى استعداد محور الشر الإقليمي لإشعال المنطقة بحرب هدفها الأساس هو المغرب ووحدته الترابية واستقراره.
استفزازات ومؤامرات واجهها المغرب بالكثير من الثبات الانفعالي و لتنجح الديبلوماسية الملكية المغربية في تحقيق نصر سياسي بعثر أوراق المتربصين والمتآمرين، تمثل في الاعتراف الأمريكي بالسيادة المغربية على أقاليمه الجنوبية بنص واضح صريح غير قابل للتأويل، ليبدأ فصل جديد من فصول هذا النزاع المفتعل حيث تتعدد الاختيارات والتقديرات ويبقى الهدوء الاستراتيجي والثبات الانفعالي سيد الميدان، حيث توالت الاعترافات الإسبانية والفرنسية والأوروبية واللاتينية بصفة عامة وتم افتتاح أكثر من 32 قنصلية في الأقاليم الجنوبية.
إرادة الإعمار والبناء تمثلت في تعليمات أمير المؤمنين بعد أسبوع من انتهاء العملية العسكرية ببناء مسجد جامع كبير في منطقة الكركرات، كدلالة على السيادة الروحية للمملكة المغربية على كامل التراب الوطني وكرسالة إلى كل من يهمه الأمر بأن إمارة المؤمنين كمؤسسة تحمي الأمن الروحي للمملكة تسير بثبات إلى جانب الحزم المغربي في حماية التراب الوطني ضد كل المؤامرات والاختراقات المتطرفة لمخيمات تندوف، حيث تنشط الجماعات الإرهابية التكفيرية والميليشيات الشيعية بفكرها الصفوي التوسعي.
انتصار المغرب في معركة الكركرات عسكريا وسياسيا يمكننا اعتباره هدية مجانية قدمها المغرب في طبق من ذهب لنظام الجنرال محمد ولد الغزواني، هذا الانتصار حرر موريتانيا من تهديد البوليساريو لأمنها الاقتصادي، كما أنه أعطى لموريتانيا حرية أكثر في الانتقال بين المحاور الجيوسياسية في المنطقة لأن تأمين المغرب لمعبر الكركرات الدولي بعملية عسكرية هو تحرير لموريتانيا من وصاية ميليشيا البوليساريو الإرهابية.
وجاء كتذكير للجميع بأن المغرب كقوة سياسية وعسكرية له الكلمة العليا في الأقاليم الجنوبية شرق الجدار وغربه ولا يمكن للجبهة الانفصالية تهديد الأمن القومي للمغرب سواء في حدوده الأمنية أو حدوده التاريخية.
كلنا نتذكر التصريحات الاستعلائية من داخل موريتانيا لمجرم الحرب إبراهيم غالي عندما هدد الشعب الموريتاني بأنه سيدفع الثمن غاليا وأنه المتضرر الأول في حالة عودة البوليساريو لحمل السلاح واندلاع حرب في المنطقة.
اليوم المغرب بعد أكثر من أربع سنوات على تأمين المعبر الدولي الكركرات وإعلان البوليساريو العودة الوهمية للسلاح اقتنع العالم بأن المغرب يسيطر بشكل تام على حدوده الأمنية.
كما أن تحمل الجيش الموريتاني مسؤوليته بعدم السماح للعناصر الإرهابية الاقتراب من المعبر انطلاقا من شمال موريتانيا تظهر لنا ملامح موقف موريتاني جديد يتشكل بهدوء وبروية قد ينتهي بمواقف أكثر براغماتية وأكثر واقعية.
هذه التطورات الميدانية والسياسية أصابت ميليشيا البوليساريو ومشغليها بالإحباط والسعار مما استدعى التهديد والتلويح باستخدام أسلحة نوعية متمثلة في أسلحة إيرانية، وهو ما رد عليه المغرب بحزم من خلال تصريح السيد عمر هلال، الممثل الدائم للمملكة المغربية بالأمم المتحدة، بأن المغرب سوف سيفرض سيطرته على المنطقة العازلة بالكامل في حال إذا تم تسجيل استخدام الطائرات المسيرة لمرة واحدة فقط وأكد أن عواقب وخيمة ستقع بالمنطقة مضيفا أن المغرب سيتصرف بقوة إذا تم استخدام الطائرات المسيرة من طرف البوليساريو.
المملكة المغربية حاليا تقوم بالعديد من المبادرات الرامية لربط الكركرات بالنسيج الوطني حيث تم ربطها بالشبكة الوطنية للكهرباء بالإضافة لقرار وزير التجهيز بربط الكركرات والداخلة بطريق سريع، كلها مؤشرات تدل على رغبة المغرب في تحويل المنطقة إلى مجمع لوجستيكي عملاق للنقل البري بين قارتين وسوقين عالميين قد يتجاوز عدد سكانهما مليار ونصف نسمة.
عملية الكركرات حددت استراتيجية مغربية واضحة الملامح في ما يخص رؤية المغرب كدولة – أمة للنزاع في الأقاليم الجنوبية حيث اعتبرها الخطاب الملكي السامي بمناسبة الذكرى 65 لثورة الملك والشعب 20 غشت 2022: “أن ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط، الذي يقيس به صدق الصداقات، ونجاعة الشراكات”.
هي رسالة مسؤولة واضحة من المملكة المغربية بأن قضية الوحدة الترابية للمملكة المغربية بالنسبة للمغرب في علاقاته المستقبلية و الحالية مع باقي دول العالم يجب أن تكون عابرة للمواقف و لا تتأثر بالظروف الإقليمية، ولا بالتطورات السياسية الداخلية أو التغيرات الجيوسياسية والإنتخابية للدول الشريكة و الصديقة أو تلك التي تريد الإنخراط في شراكات مستقبلية للمغرب ، الموقف من الوحدة الترابية للمملكة المغربية اليوم أصبح محوريا في السياسة الخارجية و عاملا أساسيا لطبيعة العلاقات الديبلوماسية بمختلف أشكالها للمغرب مع باقي دول العالم و “بشكل خاص من شركاء المغرب التقليديين والجدد، التي تتبنى مواقف غير واضحة، بخصوص مغربية الصحراء، أن توضح مواقفها، وتراجع مضمونها بشكل لا يقبل التأويل”.
المملكة المغربية كقوة إقليمية في منطقة غرب المتوسط وشمال غرب إفريقيا والساحل وكشريك أساسي في الحفاظ على الأمن الإقليمي بتعدد المخاطر والتحديات، تفرض رؤيتها الخاصة المرتبطة بسيادتها الكاملة وبأمنها القومي والأمن الإقليمي، ولن تسمح لأي جهة بالعبث معها أو التلاعب بموقفها من الصحراء المغربية لابتزاز المغرب وفرض أجندتها الخاصة عليه، مجموعة من الدول مطالبة اليوم بتقديم موقف واضح صريح ومسؤول بشكل جدي وبدون مواربة وغير قابل للتأويل حول الوحدة الترابية للمملكة المغربية لأنها أصبحت تشكل منعطفا أساسيا في ترسيخ المسار الديبلوماسي مع أي دولة في العالم، المنطقة الرمادية أصبحت متجاوزة والمواقف المرتعشة غير مقبولة من طرف العاصمة الرباط، اليوم هناك واقع جيوسياسي جديد تكرسه الوقائع على الأرض تتمثل في نجاعة مسار “دبلوماسية القنصليات” التي أصبحت ورقة أساسية في ترافع المملكة المغربية من أجل الدفاع عن وحدتها الترابية.
جلالة الملك أكد على ضرورة تقوية الجبهة الداخلية من أجل الدفاع عن وحدتنا الترابية ولن يتأتى لنا ذلك إلا بالانخراط الجدي والمسؤول للقوى الحية في المجتمع المغربي، من أحزاب سياسية ومنظمات المجتمع المدني، من أجل التعبئة الشاملة للتصدي لكل مناورات خصوم الوحدة الترابية، فساعة الحسم السياسي مع ميليشيا البوليساريو الإرهابية أصبحت قريبة جدا، وحقيقتها كجماعة إرهابية أصبح من الصعب إخفاؤها بالشعارات الرنانة والأكاذيب والتضليل والحروب الإعلامية الفاشلة..
اليوم المملكة المغربية تقدم في الأقاليم الجنوبية نموذجا تنمويا رائدا انتقل بحواضر الصحراء المغربية من مداشر صغيرة وخيام في الصحراء إلى مدن عصرية، ببنية تحتية متكاملة ومستدامة وموانئ ومطارات دولية تضع الإنسان كأولوية أساسية في التنمية، حيث استطاعت المملكة المغربية بعد ثلاث سنوات من عملية الكركرات الحفاظ على قواعد الاشتباك الإقليمية التي فرضتها بقوة عناصر الجدار المغربي المحافظ على الأمن القومي والمصالح العليا للشعب المغربي، حيث يخطط المغرب لتحويل الصحراء المغربية إلى معبر لوجستيكي أطلسي عملاق عابر للقارات مما سيجعلها أحد الوجهات الاستثمارية الجذابة عالميا، مستفيدا من استقرار الأقاليم الجنوبية في ظل محيط إقليمي متقلب وهو ما عبر عنه جلالة الملك محمد السادس في خطاب الذكرى 48 للمسيرة الخضراء 6 نونبر 2023 قائلا: “غايتنا أن نحول الواجهة الأطلسية، إلى فضاء للتواصل الإنساني، والتكامل الاقتصادي، والإشعاع القاري والدولي”.
أخيرا ملحمة الكركرات لم تكن فقط عملية عسكرية ببعد أمني وعملية تطهير وتأمين للمعبر الدولي الحدودي من شرذمة من المرتزقة من عناصر الميليشيا الانفصالية، بل كانت معركة بين الخير والشر، بين إرادة الأمن الشامل والبناء والتنمية ودعوات الخراب والدمار والإرهاب، ملحمة الكركرات هي جزء من صيرورة نضالية خاضها الشعب المغربي بقيادة المؤسسة الملكية منذ آلاف السنين لتحصين وحدته ونشر قيمه وبناء حضارة مغربية متفردة بكل مكوناتها.